بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا وهادينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
ياعلي : إنَّ من اليقينِ (1) أن لا تُرضي أحداً بسَخَطِ اللّه ،
ولا تَحمِد أحداً بما آتاكَ اللّه ، ولا تَذُمَّ أحداً على ما لم يُؤتِكَ اللّه (2)
، فإنّ الرزقَ لا يجرُّه حِرصُ حريص ولا تصرفُه كراهةُ كارِه (3)
، انّ اللّهَ بحكُمه وَفضله جعل الرَّوْحَ (4) والفَرَحَ في اليقينِ والرضا (5)
، وجعلَ الهَمَّ والحُزنَ في الشكِّ والسَخَط (6) .
ياعلي : إنّه لا فَقر أشدُّ من الجَهل (7) ، ولا مالَ أعودُ من العَقل ،
ولا وحدةَ أوحشُ من العُجب (
، ولا مُظاهرةَ أحسنُ من المُشاوَرة (9)
، ولا عقلَ كالتدبير ، ولا حَسَب كحُسنِ الخُلُق (10) ، ولا عبادةَ كالتفكّر (11)
ياعلي : آفةُ الحديثِ الكذب (12) ، وآفةُ العلِم النسيان ،
وآفةُ العبادِة الفَتْرَة ، وآفةُ السّماحةِ المَنّ (13) ،
وآفةُ الشّجاعةِ البَغي (14) ، وآفةُ الجمالِ الخُيَلاء ،
وآفةُ الحَسَبِ الفَخر (15) .
ياعلي : عليك بالصِّدقِ (16) ولا تَخْرج من فيكَ كِذبةٌ أَبداً ،
ولا تجترأَنَّ على خيانة أبَداً (17) ،
والخوفِ من اللّهِ كأنّكَ تراه (18) ، وابذِلْ مالَكَ ونفسَك دونَ دينِك (19)
، وعليكَ بمحاسنِ الأخلاقِ فاركبْها (20) ،
وعليكَ بمساوىءِ الأخلاقِ فاجتنْبها .
ياعلي : أحبُّ العملِ إلى اللّهِ ثلاثُ خصال : من أتى اللّهَ بما
افتَرضَ عليه فهو من أعبدِ الناس ، ومن وَرِعَ عن محارِم اللّهِ
فهو من أورعِ الناس ،
---------------------------------
(1) اليقين في اللغة هو العلم وزوال الشكّ.
وله مراتب ثلاثة : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحقّ اليقين .
والفرق بينها ينكشف بمثال اليقين بالنار .
فانّ علم اليقين بالنار هو مشاهدة نورها أو دخانها ، وعين اليقين بها
هو مشاهدة جرمها، وحقّ اليقين بها هو الإحتراق فيها.
وقد جاء في الأحاديث الشريفة بيان فضله وحدّه وعلامته ،
وأنّ حدّ اليقين هو أن لا يخاف مع الله أحداً ، بل يعرف أنّ الله هو مدبّر
أمره وأنّه هو الضارّ النافع كما تلاحظ ذلك في بابه.
(2) فعلامة وجود اليقين بالله هو العلم بأنّ الله تعالى مالك ضرّه ونفعه
، ومقسّم رزقه على طبق مصلحته ، وأنّه يوصله إليه ويرزقه كيف يشاء .
ولازم هذا الإعتقاد أن لا يُرضي الناس بسخط الله ولا يوافقهم في
معصية الله طلباً للرزق ، ولا يحمدهم تزلّفاً لرزق ساقه الله إليه ،
ولا يذُمَّهم على ترك صلتهم ما دام كون الرزق من الله تعالى .
(3) أي الرزق المقدّر المقسوم فإنّه لا يحتاج في وصوله
للإنسان إلى حرص ، كما لا يمنع عن وصوله كراهة كاره أو حاسد .
فانّ العبد لو كان في جُحر مخبّأ لأتاه رزقه ، ولم تخطئه قسمته .
نعم لله تعالى الفضل والجود والكرم ، فيسأل الله تعالى الزيادة من
فضله والمزيد من رزقه .
(4) الرَّوح ـ بفتح الراء ـ : هي الراحة والإستراحة
والرحمة ، وسكون القلب .
(5) فإذا حصل في قلبه اليقين كانت ثمرته الرضا والراحة .
(6) فإذا لم يُحرز اليقين بل كان في شكّ وعدم إطمئنان
النفس ، وفي سخط وعدم رضا القلب كانت ثمرتهما الهمّ والإهتمام
وإضطراب النفس في تحصيل الرزق ، والحزن والجزع عند فواته .
وفي الحديث العلوي الشريف : « لا يجد أحد طعم الإيمان
حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ».
(7) وردت هذه الفقرة في وصيّة الفقيه المتقدّمة الكبيرة
فلاحظها مع بيانها .
(
أي إعجاب المرء بنفسه ، فانّه يدعو إلى أن يرى الإنسان
نفسه فوق الآخرين ومتفرّداً عن الباقين ، فيحسّ بالوحدة والوحشة .
قال المحدّث القمّي : (العُجب إستعظام العمل الصالح وإستكثاره
والإبتهاج له والإدلال به ، وأن يرى الإنسان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير .
وامّا السرور به مع التواضع له تعالى والشكر له على التوفيق لذلك فهو
حسن ممدوح).
(9) في المحاسن : « ولا مظاهرة أوثق من المشاورة » .
(10) في المحاسن جاء قبله : « ولا ورع كالكفّ » .
(11) أي التفكّر في آيات الله ونعمه وآلاءه ، وقد جعل الله
تعالى التفكّر من أوصاف اُولي الألباب من قوله عزّ اسمه :
( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا ما خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا )
وقد جاء مدحه في أحاديثنا الكريمة التي عقد لها باب مستقل .
منها حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) :
( التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به )
ومنها حديثه فيما أوصى به الإمام الحسن (عليه السلام) :
( لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزّوجلّ ) .
ومنها ما رواه الصيقل قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) :
تفكّر ساعة خير من قيام ليلة ؟
قال : نعم ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :
تفكّر ساعة خير من قيام ليلة . قلت : كيف يتفكّر ؟
قال : يمرّ بالدور الخربة فيقول : أين بانوكِ ؟ أين ساكنوكِ ؟
ما لكِ لا تتكلّمين؟
(12) أغلب هذه الفقرة أيضاً ورد في وصيّة الفقيه المتقدّمة فراجع .
(13) السماحة هو الجود والبذل في العسر واليسر.
وآفته المنّ بأن يمنّ على من جاد عليه . ويقول له مثلا :
ألم أعطك ؟ ألم اُحسن إليك ؟ وزاد بعده في المحاسن :
« وآفة الظرف الصلف » أي أنّ آفة الظرافة في الكلام هي الصلافة والعنف .
(14) الشجاعة هي شدّة القلب عند البأس ، وآفتها البغي أي
الفساد والظلم فإنّ مكرمة الشجاعة ينبغي أن تكون مع العدل والإنصاف ،
كما كانت في الأولياء المتّقين الهداة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين .
(15) الحسب هي الشرافة بالآباء ، وآفته هي المفاخرة والمباهاة بها .
وزاد هنا في المحاسن قوله :
« ياعلي : إنّك لا تزال بخير ما حفظت وصيّتي ،
أنت مع الحقّ والحق معك » .
(16) الصدق في الكلام هو مطابقته للواقع ، والصدق
في الوعد هو الوفاء به .
والصادق حقّاً هو من يصدق في دين الله نيّةً وقولا وعملا.
وقد عقد ثقة الإسلام الكليني باباً في الحثّ على الصدق وأداء الأمانة ،
وذكر أحاديث أنّ الله عزّوجلّ لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث وأداء
الأمانة إلى البَرِّ والفاجر ، وأنّ من صَدَقَ لسانه زكى عمله ،
وأنّ علياً (عليه السلام) إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة فلاحظ.
(17) الخيانة هي مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ ،
وهي نقيض الأمانة. فكلّ ما كان نقضاً للعهد سرّاً فهي خيانة سواء
أكان في الدين أم في المال أم في الأهل أم في غيرها .
وقد عقد العلاّمة المجلسي في ذمّها باباً من الأحاديث منها قول
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): « من خان أمانةً
في الدنيا ، ولم يردّها إلى أهلها ثمّ أدركه الموت مات على غير ملّتي ،
ويلقى الله وهو عليه غضبان » و « الأمانة تجلب الغنا ،
والخيانة تجلب الفقر »و « ليس منّا من خان مسلماً في أهله وماله ».
(18) ومبدأ الخوف من الله تعالى هو معرفة عظمة الخالق
ووعيده ، وتصوّر أهوال البرزخ والقيامة ، وإدراك قهره وعقابه .
فيلزم الخوف من الله تعالى خوف من يشاهده بعينه ، وإن كانت هذه
الرؤية مستحيلة ، إلاّ أنّ رؤية الله تكون بالقلوب ولم تره العيون بمشاهدة ا
لأبصار بل رأته القلوب بحقائق الإيمان وفي حديث إسحاق بن عمّار قال :
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : « ياإسحاق خف الله كأنّك تراه
، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك ، وإنْ كنتَ ترى أنّه لا يراك فقد كفرت ،
وإنْ كنتَ تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جَعلْتَهُ من أهون
الناظرين عليك ».
(19) فإنّ بقاء الدين يُفدّى بالنفس والنفيس والمال والمنال ،
فيُبذل المال والنفس في سبيل الدين .
(20) يقال : رَكبَ الأمر أي فعله ـ وهذا أمر بإتيان
المحاسن الأخلاقية ـ وما بعده أمرٌ باجتناب المساويء الأخلاقية .